في ليلة مشحونه بالتوتر، ينبئني تفكيري المشوش
المتعجل الضائق ذرعا بكل ما يرى، أننا لن نرى في هذا البلد المنكوب يوما سعيدا دون
أن نقرر التخلي عن بضعة ألفاظ، فخمة النطق، تافهة الدلاله، يكفي الالقاء بها في أي
محفل سياسي لصنع حواجز وعوائق وسجون لا يمر منها الضوء، ولا يمر منها الاكسجين الذي
تتنفسه فكرة وليده.
يقول لنا التاريخ أن أعتى الديكتاتوريات قامت
على مثل هذه الألفاظ ومترادفاتها، وراح ضحيتها ملايين البشر لأسباب أدركنا بعدها
أنها كانت في غاية التفاهه.
أما في بلدنا المنكوب فيبدو أن التاريخ بلا
معنى، فقد عادت هذه المفردات الفخمه اللامعه لتبشر بتدشين عهد جديد من البؤس والدم،
والدوران بلا نهايه في دائرة العبث
فيما يلي أذكر بعضا من هذه الألفاظ كيفما اتفق،
وأحاول أن أنقل لحضرتك انطباعي السيء عنها وسر تشاؤمي منها.
1- الكرامه
بحسب التعريف فإن هذا اللفظ يصلح لمدح
أو ذم الأشخاص، فهذا شخص ذو كرامه، أي أنه يستحق التوقير والاحترام، لا يوجد
مايشينه، وهذا آخر كرامته بتنقح عليه، فيفضل أن يبات جوعانا على أن يطلب الإحسان،
وهذه شخص يسكت عن شتيمته فهو عديم الكرامه.
أما الشعوب، فلا يجب أن تتغذى على هذا
اللفظ المؤذي جدا، في السياسه على الأقل..
عندما يقول سياسي أن مصر لن تمد يدها
لأن عندها كرامه، هل يمكن لأم أن تقنع رضيعها أن ينام جوعانا أو بردانا أو مريضا
لأن الوطن يعيش في كرامه؟ هل تدفع الكرامه تكاليف اصلاح الطرق؟ هل تدفع مرتبات رجل
الشرطه والقاضي؟ هل تحميك من التعرض للسرقه أو القتل؟ لا، النقود فقط هي التي تفعل
ذلك. وظيفة الدوله أن توفر هذه النقود على الأقل، لا أن تستبدل بها الألفاظ الرنانه.
مصر تحتاج معونات؟ اذن مصر تتلقى
معونات، وعلى السياسي أن يواءم أموره بحيث يحصل على أفضل الشروط، بأقل الالتزامات
على المدى الطويل. وعلى الاقتصادي أن يتنبأ بالعجز، يضع البرنامج الذي يقلله أو
ينهيه، حتى يعيش البلد وياكل عيش. لا دخل للكرامه بالأمر.
جدير بالذكر قبل أن نترك هذه النقطه أن
من يتحدثون عن الاستغناء عن المعونات للحفاظ على الكرامه، يروجون لمصادر أخرى،
معادية للأولى، لتلقي المعونات، فيما يبدو أنه نوع من الكيد ليس إلا، ولا نفهم
دخله بالكرامه.
2- الهويه
كما في البند السابق، هي شيء يصلح للاستعمال
الفردي. مفرده فلسفيه قد يستغرق فهمها العمر كله، لكنها في هذا السياق، بالتعريف
الموجز، هي كيفية تعريف المرء لذاته، قد تشمل أو لا تشمل اسمه وسكنه وعمله وأصله
وميوله ومزاجه.
اذن لا يصلح أن تكون لنا هوية جماعيه؟
ليه لأ، أنا وحضرتك مصريين، لنا تاريخ مشترك، عائلاتنا كانوا جيران، متربيين
مسلمين، متعلمين في مدرسه واحده، بنسمع أم كلثوم. إذن نشترك في جزء كبير من
هويتينا. جميل.
لكن أن يتم الحديث عن هذه الهويه في
السياسه؟ حماية الهويه مثلا؟ ماذا يتطلب هذا؟
يتطلب أن تلتزم الدوله بحماية أم كلثوم
مثلا؟ أن تنفق من جيبي ومن جيب حضرتك في ترميم شرائط أم كلثوم؟ أن تراقب المغنيين
حتى لا يقوم أحد بتغيير ألحان أم كلثوم أو الدعوه إلى سماع ألحان جديده؟ وانت مالك؟
(تلاحظ طبعا أني استخدمت مثال أم كلثوم
لتجنب أمثله أشد حساسيه)
انا النهارده باسمع أم
كلثوم، بكره مش عايز اسمعها، هو بالعافيه؟ الناس النهارده هويتها جريجي، بكره بقت هويتهم
بربري، ده يؤذيهم في ايه؟ ده يفيد أو يضر الرضيع الي مستني عشاه أو دواه في
ايه؟ ولا حضرتك بتبتزني يعني بالحاجه الي بحبها؟
هل الأصل في تبني الهويه هو الأفراد
أم الدوله؟
بمنتهى الجديه، الحديث عن مسألة
"الهويه" في سياق السياسه، على سبيل المثال من جانب القوميين أو من جانب
الإسلاميين، هو حديث مدمر، لا يسمن ولا يغني من جوع، لا يؤدي إلا إلى تضخم الدوله،
وخلق أعداء من لا أعداء، ويفتح الباب لحروب لا تنتهي ولا تحمل أي معنى. ولنا في
تاريخ منطقتنا المنكوبه القريب والبعيد خير مثال.
كذلك، فإنه في عالمنا المعاصر، لن
تكسبك هويتك التاريخيه أو الدينيه جنيها واحدا، اللهم إلا من فرجة الناس عليك، ولن
تفتح لك أي باب. ربما إن كنت أمريكيا يرحب بك الناس احتراما لهوية شعبك الحاليه،
لكن ذلك لم يأت كنتيجه لخطه للحفاظ على الهوية الأمريكيه.
3- الوطن
كلمة وطن كلمه رقيقة وقوية في الوقت ذاته، تحرك المشاعر حتى وإن قيلت
بدون جمله تسبقها أو تليها. لكنها ما إن تدرج ضمن حقيبة أحد السياسيين،
حتى تتحول إلى خراب محدق.
ذلك أن هذه اللفظه الفخمه المظلومه دائما، تستخدم في السياسه عادة كمضاف إليه،
وما يضاف إليها في السياسه هو الكارثه، ويكون من نوعية أعداء الوطن، أمن الوطن،
شهداء الوطن.
وباسم هذه التراكيب الفخيمه ترتكب أشنع
الجرائم
فينموا الأطفال في بلادنا ويتعلمون أن يلقوا
بكل فشل وكل كارثه على الكيان الوهمي المسمى بأعداء الوطن. يقولون لنا في البيت
وفي المدرسه أن للوطن أعداءا لا يريدون له أن ينجح لأنهم (1) يحقدون عليه (2)
لأنه لو نجح فسوف يغزوهم ويهزمهم ويأخذ بلادهم (3) لأنهم يخططون لغزوه والاستيلاء
عليه. وتظل هذه الأفكار بلا مراجعه، تنمو وينمو صاحبها، حتى تتكلس في الدماغ وتلتحم به وتصبح في مكانة فصوص
المخ. يستتبع ذلك أن تجد أشد الناس ذكاءا ونجاحا وخبرة يردد عليك بآلية جمل خاويه
من نوعية: أعداء الوطن عايزينا نفشل.
أما أمن الوطن، فهو المدخل الدائم لنمو الدولة
وتوغلها، مبرر الأخطاء وانعدام الكفاءه، المدخل الدائم لانتهاك الخصوصيه الفرديه
والحقوق الشخصيه، لأن أمن الوطن يكون دائما في عجلة من أمره فلا يتمكن من استصدار
اذن نيابه.
أما الوطن نفسه، فيظل بلا تعريف، يظل أداة
ابتزاز قد تمنع المواطنين من الدراسه ومن التجاره ومن الكتابه ومن الحب.
4- الشهداء
لا أريد ولا أعني من قريب أو بعيد أن أستخف بمشاعر حضرتك تجاه شهداءك،
لكني أصر أن استخدام كلمة "شهداء" في السياسه هو استخدام تافه.
كلمة شهداء تمنح للموتى حصانة ضد المراجعة والنقد
ومثلها مثل ماسبق، قد تصلح في قصيده أو جلسة سمر، لكنها في السياسه
تهدم ولا تبني.
عندنا مثلا يشتبك المتظاهرون ورجال الشرطه، ويسقط من المتظاهرين عشرة
قتلى ويسقط من الشرطه قتيل واحد. تكرم الدوله الأحد عشر متوفيا بصفتهم شهداء
الوطن. وبهذا ينتهي أي منطق في فتح تحقيق في الواقعه للمحاسبه أو تجنب حدوث هذه
الكارثه في المستقبل. هل نحاسب شهيدا؟ الشهيد يتكئ على سرر في الجنه، ولا يغسل
جسده لأنه حي عند ربه.
لذلك فإن ذكر كلمة شهداء في أي حديث عن المستقبل يفقده صلابته. لأنه
أصدر الحكم مسبقا فحال دونه ودون المساءلة، هذا سبب، السبب الآخر هو أنه جعل من الموقف الذي
اتخذه الشهيد موقفا لا يمكن مراجعته، والجمود لا يصلح حديثا عن المستقبل. وأنا
كلما استمعت إلى قصيدة لا تصالح أظل أفكر كيف يمكن أن تنتهي هذه المأساه.
في النهاية، كنت اظن أن في رأسي مئات المفردات المشابهه (مثل العزه، الاستقلال، النخوه.. الخ) لكني أعتقد
أن الأربعة المذكورين هنا أكثر من كافين للتعبير عما أحس به تجاه هذا البلد وأهله
ونخبته. وأوجز كلامي في أن الكرامه شيء نتمناه ونحققه لأنفسنا بالعمل والترقي،
وليس بالبلاغه وبالتلويح براية الهوية المهترئه من كثرة الاستعمال. والوطن هو
مايحقق لمجموعة من المواطنين أنسب ظروف العيش، يعرفهم بعملهم ولا يرى هوياتهم.
وأما الشهداء فإنهم إن عادوا يوما فسوف يصدمهم أن يعرفوا أن الحياه توقفت لدينا في ساعة وفاتهم.